جريدة يومية هدفها الأساسي التعبير عن صوت أغلبية الشعب المصري الصامت منذ أبد وللأبد والتائه بين شتى الإتجاهات الفكرية والسياسية وبين احتياجاته اليومية. هي في البداية والنهاية صرخة هادئة من القلب للقلب.

السبت، يناير ٠٦، ٢٠٠٧

عن التعليم سألوني، سألوني سألوووني، سألوني، وانا في العلم لاأفهم

.
.



يحتار المرء منا حينما يفكر في معضلة التعليم في مصر، إذا كان الحصول على التعليم الجيد بطبيعته مشكلةً عويصةً، فلماذا نحن فقط من ابتلينا بها؟ وإذا لم يكن كذلك، فلماذا لم تحل على مدار الـ 25 سنةً الماضية مع كل المحاولات الجاهدة والإعتمادات المالية اللانهائية التي استنفذت في محاولات التطوير والخروج من الأزمة؟

أذكر عندما كنا أطفالاً في مراحل التعليم الأولى كنا نسمع ونتحدث عن شبح الثانوية العامة، صدق أولا تصدق!!! فشبح التعليم كله كان منحصراً في سنةٍ دراسيةٍ واحدةٍ هي الثانوية العامة. باالتأكيد هناك أجيالُ جديدةُ لاتسمع عن شبح الثانوية العامة إلا من حكايات الآباء والأجداد وبالكاد يصدقونها. فمن يصدق اليوم وهو يرى جميع المراحل الدراسية أصبحت أشباحاً من الصف الأول الإبتدائي وحتى الثانوية العامة، أن المعضلة كلها كانت متمثلةً في سنةٍ دراسيةٍ واحدة؟

أذكر أيضاً أنه وفي نفس الفترة تقريباً كانت الباطنية هي المركز شبه الرسمي لتجار المخدرات ومتعاطيها، بحيث انه كان من السهل لو أردت أن تتابع حالة مدمنٍ أو تاجرٍ أن تتجه إلى الباطنية فتعرف كل شيء عنه. فماذا فعل نظام الحكم وقتها؟ قرر أن ينظف الباطنية من تجارة المخدرات - وياريته مانضفها - فقد كانت النتيجة المباشرة لعملية التنظيف هي انتشار تجار الصنف في جميع أحياء القاهرة الكبرى وبالتالي أصبح من الصعب تتبعهم

سوف يسألني سائلُ بعد أن يهرش رأسه ويدعك عينيه بشدة، ياأستاذ ياأستاذ، ستووووووووب من فضلك، طب إيه علاقة التعليم وسياسته بالباطنية واللي حصل لها؟ ويجوز أن يكون معه حقُ في سؤاله واستغرابه ولكن هل سيعتبر رأيي نوعاً من التجديف إذا قلت أن العلاقة واضحةً جداً بل ووثيقةً أيضاً. كيف؟ هذا ماسأحاول شرحه فيما يلي

الحكاية كلها في غاية السهولة، فكما أن النظام ضرب ضربته في الباطنية بحجة تنظيفها فخلق أصنافاً وأشكالاً لاحصر لها من الباطنيات الصغيرة المنتشرة في كل أنحاء مصر، حاول نفس النظام أن يضرب شبح الثانوية العامة وطبعاً كانت النتيجة المباشرة هي تفتيت هذا الشبح إلى أشباحٍ صغيرةٍ موزعةٍ على جميع مراحل التعليم. جديرُ بالذكر أيضاً أن من أهم الجوانب المشتركة بين أشباح التعليم والباطنيات الصغيرة هو انهم قابلين للنمو والتكاثر كالخلايا السرطانية مما يحول كل شبحٍ وكل باطنيةٍ صغيرين إلى ماكانت عليه أصولهما مع اكتساب ميزة الإنتشار والتوسع

لماذا عقد عقلي هذه المقاربة الغريبة؟ بحثت كثيراً في أعماقي لمحاولة الوصول إلى السبب الجذري لذلك، فوجدت أنه نتاج صراعٍ بداخلي على درجةٍ عاليةٍ من الشدة بين احتمالين لاثالث لهما لهذه المقاربة ومثيلاتها من المقاربات الأخرى التي قد تخطر في بالي أو بال الآخرين. إما أن نظام الحكم في مصر أساء إدارة عملية تطوير التعليم لدرجة الإهمال الجسيم أو أنه في الحقيقة – ويالها من حقيقةٍ مرةٍ ومخيفةٍ – لم يمتلك أبداً إرادة التغيير أو التطوير

فلنحاول سوياً أن نتحقق من صحة أحد الإحتمالين فتشخيص الداء لابد وأن يكون سابقاً لتوصيف الدواء كما أحسب. فلنبدأ بفرضية أن النظام المصري أساء على مدار الـ 25 سنة الماضية إدارة عملية تطوير التعليم في مصر. ولنحلل مدى صحة الفرضية يجب أن نوضح بعض الحقائق كما يلي

جميع الحكومات المتعاقبة منذ الثمانينات تدعي أن التعليم من أهم أولوياتها وباسم هذا الإدعاء ضخت المليارات من أموال برامج التنمية التابعة للمنظمات والهيئات الدولية الحكومية منها والغير حكومية من مثل اليونسكو، والمعونة الأمريكية والإتحاد الأوروبي ودوله ..........إلخ. ومع ذلك ظلت ميزانية التعليم في مصر هي من أقل ميزانيات الوزارات بل ولا وجه لمقارنتها بمثيلاتها في أفقر الدول بما فيها لبنان وسوريا وغيرها ولن أقول الإمارات العربية المتحدة أوالمملكة العربية السعودية

أيضاً جميع هذه الحكومات بلا استثناء إما استحدثت جديداً أو ألغت مااستحدثته الحكومة السابقة عليها. فمن تقسيم شعب التخصص في الثانوي العام إلى علمي علوم وعلمي رياضيات، إلى إلغاء الصف السادس الإبتدائي ثم إعادته مرةً أخرى، إلى ضم الصفين الثاني والثالث، إلى المستوى الرفيع.....إلخ

تحت ادعاء توفير مزيدٍ من التركيز والعناية تم تقسيم مسئولية التعليم إلى وزارتين تتخصص إحداهما في التعليم الأساسي والأخرى في التعليم الجامعي. فلم يتقدم أيهما بل انتكسوا جميعاً

توفر لدى جميع الحكومات المتعاقبة كل الإمكانيات البشرية المحلية والدولية من خبراءٍ واستشاريين متخصصين في تطوير العملية التعليمية. بل ومنهم الكثير ممن عمل مع هذه الحكومات رأساً برأسٍ ولكن هيهات هيهات

وأخيراً، ألم يكن أمام أيٍ من هذه الحكومات البديل الطبيعي والمنطقي وهو تطبيق أي نظامٍ تعليميٍ آخر موجود في العالم ثم تمصيره وتطويره مع الزمن؟ ألم يكن هذا أجدى وأنفع من أسلوب التجربة والخطأ الذي عفا عليه الزمن وتجاوزه منذ عقود؟

هل بعد كل ماذكرناه وأوردناه آنفاً يمكن القول أن ماقامت به الحكومات المصرية المتعاقبة هي أخطاء تطبيقٍ وتجاربٍ ومحاولات؟ يخيل لي بعد كل هذه المقدمة يصعب على العقل – على الأقل عقلي أنا – أن يتخيل إنساناً بهذه الدرجة من الغباء ناهيك عن كونه مجموعةً مختارةً مكونةً لجميع الحكومات المتعاقبة لدولةٍ لها تاريخها مثل مصر. هل يمكن أن يتخيل العقل أن حكوماتٍ توافرت لديها كل هذه الإمكانيات الوفيرة والأمثلة الحاضرة والجاهزة للتطبيق والعقول المشجعة والمستعدة للدعم، ثم تفشل لدرجة أن تسوء الحالة بدل أن تتحسن؟ إذاً والحال كذلك ومع صعوبة تصديق هذه الفرضية – فرضية الإهمال الجسيم – يتبقى خيار أوحد وهو أن تدهور التعليم في مصر بجميع مستوياته كان خياراً محبذاً ومطلوباً بل ولا أظن اني أتجنى بقولي أنه كان الخيار الذي تم توجيه كل موارد الدولة إليه

بالتأكيد أن هذه الخلاصة الحزينة والمريرة تحتاج لما يبررها، فهل للنظام في مصر مصلحة أو مصالح وراء دفع عجلة تطوير التعليم دفعاً عكسياً أو للوراء كما يبدو لنا؟ رأيي الشخصي هو أنه يجب أن ننظر إلى حاضر مصر الآن لكي نفهم دوافع النظام لدهورة التعليم فيها. فلنراجع الرسالة التي يبعث بها النظام لنا وللعالم أجمع في مواجهة المطالبات المتزايدة بتطبيق ديموقراطيةٍ حقيقيةٍ مبنيةٍ على أسس الحرية وحقوق الإنسان. في كل موقف لا يفتأ – حلوة يفتأ دي؟ - من القول بأن شعب مصر ليس جاهزاً للديموقراطية والحرية بعد لأسباب انتشار الأمية وغياب الوعي الثقافي والسياسي ويمكن حتى الإجتماعي والتاريخي مما يترتب عليه سهولة استقطاب الجماهير بواسطة تياراتٍ واتجاهاتٍ قدتكون ضد مصالحه وعليه يتحتم على النظام – مجبر ياحرام – أن يقوم بدور الوصي على الشعب حتى يتم رفع مستواه التعليمي ومحو أميته من كل الجوانب. أتساءل هنا وأكيد سوف يتساءل كثيرون معي، ما هي الوظيفة المسئولة عن رفع مستوى المواطن المصري على كل هذه الأصعدة؟ أليس هو التعليم؟ أليس التعليم هو المنوط به رفع المستوى العلمي والثقافي والإجتماعي والوعي السياسي للشعب؟ هل ظهرت الرؤية أو اتضحت لكم؟

دعني أوضح ماقصدت ببساطة، تعمد النظام الحاكم في مصر الدفع في اتجاه دهورة التعليم ومحو الأمية حتى لايتسنى لعامة الشعب أن يطالبوا بحقوقهم ويستحقوا عن جدارة شفقة العالم وينجو النظام بوصايته على الشعب حتى لايستطيع تغيير النظام ليحصل على تعليم جيدٍ وجدي. وهكذا تدور العجلة سنين وسنين وتمرعقود وعقود والأموال تضخ والمستشارين يعملون ليل نهار، يكتبون التقارير تلو التقارير والمقترحات تلو المقترحات بلا فائدةٍ ترجى. وينطبق المثل الذي يقول "أسمع جعجعة ولا أرى طحناً" مع الفارق فالجعجعة هنا مستمرة منذ ثلاثة عقود تقريباً ولايبدو في الأفق القريب أي نهايةٍ واضحة لها حتى الآن

التسميات: , ,